الجامعات الألمانية: تصهين وعنصرية واستشراق جديد

سعيد محمد – لندن

سحبت جامعة ألمانية دعوة كانت توجهت بها إلى البروفيسورة نانسي فريزر، المفكّرة والفيلسوفة اليهودية الأمريكيّة، لتولي منصب أستاذيّة مرموق فيها، وذلك بحجة توقيع البروفيسورة على رسالة مفتوحة نشرت في نوفمبر / تشرين ثاني الماضي بعنوان “فلسفة من أجل فلسطين” باسم عشرات من أساتذة الفلسفة حول العالم.

ولم تخف جامعة كولونيا في بيان نشرته أنّها ألغت المنصب الزائر – الذي يعد تشريفاً رفيعاً – لتولى أستاذية مقعد ألبرتوس ماغنوس لعام 2024، وسحبت الدّعوة التي كانت وجهتها للبروفيسورة فريزر قبل عامين لشغله. وماغنوس (1200 – 1280) كان فيلسوفاً وعالماً وأسقفاً ألمانياً درّس لعدة سنوات في جامعة كولونيا، وعرف بتعليقه على أعمال أرسطو وابن سينا وابن رشد وجعلها في متناول معاصريه، وطوبته الكنيسة الكاثوليكية شفيعاً لعلماء الطبيعة لمساهمته المتقدمة في فلسفة العلوم وغاياتها.

ماغنوس: من لوحة جدارية لتوماسو دا مودينا

وقالت الجامعة إن مضمون رسالة “فلسفة من أجل فلسطين” لا يتماشى مع موقفها المعلن كما كانت عبّرت عنها في البيانات التي صدرت في التاسع وأيضاً في الثاني والعشرين من أكتوبر الماضي حول الوضع في الشرق الأوسط، وتتعارض كذلك مع روح علاقات الجامعة الوثيقة مع (المؤسسات الشريكة الإسرائيلية). وقد حاولت إدارة الجامعة استتابة البروفيسورة فريزر بشأن موقفها تجاه (إسرائيل)، لكن المراجعات التي أجريت معها لم تسفر عن تغييرها للمواقف المعبّر عنها في “فلسفة من أجل فلسطين”.

رسالة الفلاسفة التي وقعتها البروفيسورة فريزر كانت أثارت حنق الصهيونية العالميّة بعد أن اعتبرت أن حق (إسرائيل) في الوجود كدولة “عنصرية عرقية” منذ تأسيسها في عام 1948 قد أصبح موضع تساؤل، وإن الهجمات التي شنها فدائيون فلسطينيون على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ترقى إلى مستوى المقاومة المشروعة. ودعا الموقعون على الرسالة إلى مقاطعة أكاديمية وثقافية للمؤسسات (الإسرائيلية).

وتسبب قرار جامعة كولونيا في صدمة في الأجواء الأكاديمية العالمية، وأدان أكاديميون ألمان معروفون مثل علماء الاجتماع ستيفان ليسينيتش وهارتموت روزا والفيلسوف أكسل هونيث القرار باعتباره لا يتوافق مع الحريات الأكاديمية، وقالوا في بيان أصدروه للتو “إن هذه الخطوة تبدو كمحاولة أخرى إضافية لتقييد النقاش العام والأكاديمي حول (إسرائيل) وفلسطين” في إشارة ضمنية منهم إلى الخطوط الحمراء التي حددتها الحكومة الألمانية – بضغوط من اللوبي الصهيوني – بشأن التضامن مع الفلسطينيين أو انتقاد حرب الإبادة الإسرائيلية ضدهم في قطاع غزّة.

وقال البيان إن تصرفات إدارة جامعة كولونيا سينظر إليها دولياً كهجوم مسيس على ما يجب أن تكون عليه الجامعة: فضاءاً للتحاور المكثف والمثير للجدل حول القضايا ذات الصلة اجتماعياً، ومساحة لتبادل الأفكار العابرة للتخصصات العلمية والحدود القوميّة.

بوستر جامعة كولون ترحيباً بالبروفيسورة قبل أن تتجاوز الخطوط الصهيونة الحمر

فيما التزمت سفارة الولايات المتحدة لدى برلين – ذات النفوذ الظاهر على الحياة الثقافية في البلاد – الصمت المطبق تجاه المعاملة المتعسفة التي تلقتها مواطنتها المرموقة، وغاب الصخب الذي تثيره عادة منظمات حقوق الإنسان والتجمعات الثقافية والصحف الغربيّة ضد تضييقات مزعومة على كتاب ومفكرين في دول مثل روسيا والصين وكوريا وفنزويلا وكوبا وسوريا وإيران، فإن قرار جامعة كولونيا لم يخرج كثيراً عن التوجه العام للنخبة الحاكمة في ألمانيا والتي اختارت أن تكون صهيونية أكثر من (إسرائيل) نفسها لدرجة أن عشرات من الكتاب والأكاديميين والصحفيين والفنانين والعاملين في المجال الثقافي من اليهود المقيمين في ألمانيا كتبوا رسالة مفتوحة للسلطات أدانوا فيها بشدة حملة القمع الممنهج والقسوة المفرطة التي تشنها ضد مظاهر تأييد الفلسطينيين في الحياة العامة – بما في ذلك الاعتداء بالضرب المبرح واعتقال يهود شاركوا في تظاهرات سلمية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة – وعبروا عن مخاوفهم من مناخ السائد للعنصرية وكراهية الأجانب المتصاعد في ألمانيا، جنباً إلى جنب مع ذلك الخلط المتعمد بين معاداة السامية وأي انتقاد لدولة (إسرائيل).

نانسي فريزر (76 عاماً) أستاذة الفلسفة والسياسة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك، التي تعد معقل الفلسفة “القارية” الأوروبيّة في الولايات المتحدة – أي عكس الاتجاهات السائدة في الفلسفة “التحليلية” الأنجلو أمريكية -، تنتمي بالتحديد إلى تيار “النظرية النقدية”، التي اشتهرت – بدعم غربي – بإجرائها مراجعات نقدية للماركسية. وقد شغلت فريزر سابقاً منصب مقعد بليز باسكال في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس (2008)، وعينت في عام 2011، كرئيسة لمبادرة إعادة التفكير بالعدالة الاجتماعية في كوكب معولم لدى معهد الدراسات العالمية – دار علوم الإنسان (FMSH). ومن الصعب إنصاف أهمية عملها وتنوع كتاباتها ومساهماتها العديدة المؤثرة في التفكير الفلسفي والسياسي حول التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمعات الغربيّة المعاصرة، بما في ذلك تطور النيوليبرالية المتوحشة، والأزمة في دولة الرفاه، والجدل حول أهمية إعادة التوزيع الاقتصادي والاعتراف الثقافي والمشاركة السياسية لمختلف الفئات الاجتماعية، كما مكانة الحركة النسوية، وتطورها في سياق العولمة.

من أحدث أعمال البروفيسورة فريزر

لا شك أن البروفيسورة لم تخسر من سمعتها المكرسة بسحب مقعد ماغنوس منها، بل لعلها ازدادت مكانة وتقديراً لموقفها المبدئي، فيما سقطت جامعة غربيّة عريقة أخرى في أوحال الصهينة، وعقدة التفوق العنصري، والاستشراق الاستعماري الجديد. يا لها من قشرة طلاء رقيقة هذه (الديمقراطية).  

نشر هذا المقال على الصفحة الأخيرة لجريدة الأخبار اللبنانية عدد الثلاثاء 9 إبريل 2024

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.