عن “أدولف” جيجيك: خرفٌ، وكوكاكين، وفاشيّة أيضاً

سعيد محمد – لندن

المهرّج السلوفيني سلافوج جيجيك، نجم روك “الفلسفة” وفق ما يقوله لنا الإعلام الليبرالي الغربي، و”الثوري الماركسيّ” كما يريد لنا الناشرون التروتسكيون الأثرياء أن نصدّق، يبلغ اليوم عامه الخامس والسبعين (مواليد 21 مارس 1949)، قضى منها نصف قرن كناشط سياسي في التيار الذي نقل بلاده يوغسلافيا من مشروع اشتراكي متقدم إلى فسيفساء عرقيّة ودينية من الديمقراطيّات النيوليبراليات التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، قبل أن ينتقل إلى الغرب ويتحوّل بقدرة قادر (أمريكيّ دائماً وبواجهات متعددة تبدأ من العم سوروس ولا تنتهي عند الوقفيّة الوطنية للديمقراطيّة) إلى واحد من أشهر المثقفين الجماهيريين في القرن الحادي والعشرين. لكن سبعين حولاً لم تصل بالخطيب المفوّه إلى حكمة الشيوخ، أو تجعل منه أقل استفزازاً، بل يبدو أن مزيجاً من علامات الخرف المرتبطة بالألزهايمر، في موازاة تجربة مديدة من تعاطي أفخر سلالات الكوكايين، قد دفعت بهذا الملفّق الزلق ذي السمعة الدوليّة إلى فقدان قدرته الأسطوريّة على قول الشيء ونقيضه في ذات الآن، ليكشف في مقابلة تلفزيونية (مع بيرس مورغان) عن وجهه الحقيقي قولاً واحداً: كفاشي عنصري بشع، “أدولف” معاصراً، لا يتورّع عن تعليب كل الروس وكل العرب في صندوق تعميمي واحد، أصوليين متطرفين مهووسين لا بدّ للسيّد الأبيض – ويفضّل عبر (الناتو) الذي كان وصفه يوماً بيد الله اليسرى – بأن يوقفهم عند حدّهم بمحض القوة الغاشمة. 

سقطة “أدولف” جيجيك الأحدث، وانفعاله الذي بدا حقيقياً هذه المرّة وأبعد من أدوار تهريجيّة محترفة طالما أبدع في تقديمها للتلاميذ الغربيين الأغرار في جامعات النخبة (الأيفي ليغ)، لا شكّ وراءها التفاف 88 بالمائة من الشعب الروسي خلف الرئيس فلاديمير بوتين في المواجهة الشرسة مع الهيمنة الأمريكيّة وسلسلة الهزائم المتلاحقة التي يكبّدها الجيش الروسي لواجهة الناتو الأوكرانيّة – نظام زيلنسكي النازي -، وقبله اللطمة التي تجرأ فدائيون فلسطينيون على توجيهها في السابع من أكتوبر لوجه مزرعة السيد الأبيض على شرق المتوسط، ودولته-الطفل المدلل، (إسرائيل).

على أنّ هذه لم تكن (سقطة) بمعنى أن الرّجل خرج عن سياق نهج فكري تقدّمي، أو جدليّة ماديّة تاريخيّة كما يراد لنا أن نصدّق – وهو الهيغيليّ الهايدغريّ الهوى -، بقدر ما كانت نوعاً من عطل مفاجئ في موهبته الحكائيّة المتدفقة، وتعثّر ممثل حاذق، خانته مشاعره الحقيقة على الهواء مباشرة، وأصرّت على أن تخرج عارية على الملأ، كازدراء صريح للآخر المختلف، بناء لتموضع عنصريّ عرقيّ محض. فجيجيك – دعك من الصورة التي ترّوج عنه -، لم يكن يوماً ماركسيّاً (أو لينيناً كما يطيب له الترديد أمام قطعان المعجبين)، ومنهجه في (التفلسف) مثاليّ صريح لا علاقة له بالماديّة الجدليّة. وهو منذ انطلق، ناشطاً في مدرسة الثورات الملونة التي تديرها منظمات المخابرات الأمريكيّة، لم يوفّر مناسبة في كتبه ومقالاته ومحاضراته ومحاوراته ومقابلاته الصحفيّة وأفلامه إلا وانتقد التجارب الشيوعيّة في القرن العشرين، بداية من يوغسلافيا – حيث مسقط رأسه -، وانتهاء بكوبا، مروراً بالطبع بالاتحاد السوفياتي، والصين الماويّة وكوريا الشماليّة، وهي بضاعة – فاسدة تزكم رائحتها الأنوف -، لكنها تخدم أغراض اليسار التروتسكي، الذي كرّس أذرعته في عالم النشر لتعميم الثقافة الجيجيكية بوصفها شيوعيّة (علميّة) للقرن الحادي والعشرين.

شيوعيّة جيجيك النرجسيّة هذه، ليست حتماً الماركسية اللينينية الجذريّة بالمفهوم الكلاسيكي، بل هي نوع منزوع الدّسم، هلاميّ، غير محدد المعالم، يأخذ شكل الوعاء (الليبرالي) الذي يوضع فيه، لا علاقة له إطلاقاً بالفعل التاريخيّ أو العمل الثوريّ الجماعي لتغيير الأقدار، وتبدو أقرب إلى حلم أفيونيّ مثاليّ، غامض وحنون ذي أبعاد سايكولوجيّة شيزوفرينية، يمكن للأجيال الجديدة تعاطيها كمهدىء أعصاب في مواجهة أزمة الرأسماليّة: الأزمة التي لم تعد دوريّة – كما في التحليل الكلاسيكي – بقدر ما هي مستمرة، ومتدحرجة، وفاجرة، وشاملة. إنها شيوعيّة من الطراز الذي كان لينين نقيضه تماماً، وانتقده غرامشي بحدة – لدرجة أنّه كتب عن (ماركس) يوتوبيّ آخر، يؤمن به القاعدون من أتباع يسارات الديمقراطيات الليبرالية، غير ماركس الذي يفهمه السّاعون لتأسيس دولة العمال الاشتراكية -.  ولذلك فجيجيك الذي بدأ مؤيداً متحمساً لحرب الناتو على يوغسلافيا، وبرر نظريّاً قصف الطائرات الأمريكيّة لمواطنيه وبلاده، يعتبر أن مشكلة (هتلر) أنه لم يكن عنيفاً بما فيه الكفاية، وأن أسوأ “جريمة ضد الإنسانية” في العالم الحديث لم تكن النازية أو الفاشية، بل الشيوعية، وهو دعم دائماً مشاريع الهيمنة الغربيّة ضدّ كل محاولات الاستقلال والنهوض في الجنوب، وهاجم اللاجئين الذين “يأتي معظمهم من ثقافة لا تتوافق مع مفاهيم أوروبا الغربية عن حقوق الإنسان”، وشنّ في الآونة الأخيرة حملة شرسة لدعم الحرب الأمريكيّة في أوكرانيا مدعياً “بأننا – أي السادة ذوي البشرة البيضاء حصراً – بحاجة إلى (ناتو) أقوى للدفاع عن (الوحدة الأوروبية)”.

لم يعارض (بيرس مورغان) تصريحات جيجيك الهستيريّة، وترك له الهواء ليتقيّأ على العالم فاشستيته البغيضة حتى آخر قطرة، فهذا الغرب بطليعته الإعلاميّة والفكريّة – وليس جيجيك وحده –، لم يعد حتى بوارد التّظاهر بالإنسانيّة والتحضّر. لقد رفعت الصحف وسقطت الأقنعة، ولن يكون مستغرباً أن يحضر هذا السلافوج العجوز حفل ميلاده الماسيّ اليوم في بدلة عسكريّة على الطراز النازي. هابي بيرث داي، أدولف التافه الصغير.

نشر هذا المقال في صفحة الثقافة بجريدة الأخبار اللبنانية عدد الخميس 21 مارس 2024

One comment

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.