كولومبيا: سراب السّلام الأمريكيّ

رغم أن الثوار اليساريين في كولومبيا ألقوا بسلاحهم وتحولوا إلى حزب سياسي يشارك ممثلون عنه في البرلمان، فإن اتفاق السّلام الذي وقّعته السّلطات معهم عام 2016 برعاية سفارة الولايات المتحدة تحوّل إلى ما يشبه مصيدة محكمة يتم عبرها تنفيذ مذبحة تستهدف بشكل ممنهج الثوار السابقين، والمثقفين، والكوادر القياديّة للطبقات المسحوقة والأقليّات من السكان الأصليين للبلاد، والكولومبيين ذوي الأصول الإفريقيّة بالتعاون ما بين الجيش الحكومي، والميليشيات اليّمينية المتطرّفة، وكارتيلات المخدرات المكسيكيّة، ومرتزقة الإقطاعيين، وبتوجيهات مباشرة من المخابرات المركزيّة الأمريكيّة الآمر الناهي في البلاد، والتي تدير فعلياً النّظام الكولومبيّ أوثق حلفاء واشنطن في أمريكا اللاتينية

تنظيم القوات الثوريّة الكولومبيّة – جيش الشعب أعلن عن حمل السلاح مجدداً بعد أيّام على نشر هذا المقال في جريدة الأخبار

لا تزال الاشتباكات مستمرّة بين قوّة من الجيش الحكوميّ الكولومبي الذي يحاصر منذ أكثر من أسبوع مجموعة من الثوّار الشيوعيين الغاضبين في سواريز (جنوب – غرب) وصفتهم السّلطات بأنهم كوادر منشقة عن (تنظيم القوات الثوريّة الكولومبيّة – جيش الشعب) المعروف ب(فارك). ويحتمي الثوّار في مبنى تابع للمجلس المحلّي في البلدة رفقة حوالي 500 من الرهائن المدنيين الذين لا يتمكنون حتى من دفن القتلى منهم. وتأتي هذه الحادثة الأخيرة بعد أسبوع على اغتيال ثلاثة من أفراد قوة متطوّعة مسلّحة بالعصي تتولى حماية الأقليّة من السكان الأصليين للبلاد واصابة سبعة آخرين من المدنيين

وفيما تدّعي سلطات النّظام الكولومبيّ – أوثق حلفاء الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية – بأنها ما زالت متمسكة باتفاق السّلام الذي وقعته مع (فارك) في 2016 بعد عقود من القتال تسببت بمقتل ما لا يقل عن 250 ألفاً أغلبهم من المدنيين العزّل، وتهجير ملايين آخرين من أماكن سكناهم الأصليّة، فإن المراقبين يتحدثون عن سياسات تصفيّة ممنهجة، تقف وراءها شخصيّات متطرفة في حزب المركز الديمقراطيّ الحاكم – أقصى اليمين –، وفي الجيش الذي يدار منذ عقود بمعرفة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، تستهدف تحديداً نخبة المقاتلين السابقين ومثقفين وكوادر قياديّة ونقابيّة للعمال والفلاّحين والأقليّات العرقيّة من بقايا السكان الأصليين للبلاد والكولومبيين من أصول أفريقيّة ولم توّفر حتى أعضاء في البرلمان. وقد قتل بالفعل 97 من رموز أقليّة السكان الأصليين وحدهم خلال العام الحالي ليصل مجموع المستهدفين بآلة القتل منهم إلى 159 منذ توقيع اتفاق السلام المزعوم قبل ثلاثة أعوام رغم أنهم رفضوا دائماً الانخراط في أيّة أعمال العنف ضدّ النظام، وردّوا عروضاً لمدّهم بالأسلحة من قبل الثّوار اليساريين. وتشير منظمات حقوق الإنسان إلى مقتل 700 من المعارضين منذ 2016 منهم 150 على الأقل من ثوار (فارك) السّابقين وقياداتهم التي انخرطت في الجهود الحكوميّة المعنية بتنفيذ اتفاق 2016 ومن المفترض – وفق الاتفاق المذكور – أنهم تحت الحماية المباشرة للجيش الحكوميّ، ناهيك عن أن ثلثي منسوبي اتحادات العمال الذين يقتلون في العالم بأسره كولومبيون أيضاً

لا أحد في كولومبيا أو في العالم يصدّق ادعاءات النّظام الحاكم الذي يمتلك واحداً من أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان في التاريخ الحديث

وتلقي الحكومة باللّائمة بشأن أعمال التصفية على صراعات وخلافات فرديّة الطابع تقول أنّها تندلع بين مجموعات الثّوار أنفسهم، لا سيما تلك التي رفضت الالتحاق باتفاق السلام (جيش التحرير الوطنيّ)، وتتهم حكومة فنزويلا المجاورة بدعمها. لكن لا أحد في كولومبيا أو في العالم يصدّق ادعاءات النّظام الحاكم الذي يمتلك واحداً من أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان في التاريخ الحديث. ولعل حادثة مقتل الثائر والقياديّ السابق في (فارك) ديمار توريس إبريل الماضي جاءت بمثابة إدانة صريحة لتورط الجيش الكولومبيّ بنفسه بالتصفيات الممنهجة.  وكان توريس – الذي ألقى بسلاحه بعد الاتفاق – تحت حماية الجيش الحكوميّ المباشرة لحظة مقتله. وقد أعلنت الحكومة وقتها أنّه قتل على أيدي ثوّار معارضين لاتفاق السلام، قبل أن تضطر للاعتذار علناً عن تورط عناصر من الجيش بقتله إثر تسرّب مقطع فيديو صوّر على هاتف نقّال لعمليّة الاغتيال التي نفذّت برصاصة في الرّأس من قبل حرّاسه أنفسهم

ويبدو إيفان دوكي ماركيز الرّئيس الحالي الذي توّلى السلطة في 2017 بشكل متزايد مجرّد واجهة تردّد بروباغاندا الأجهزة الأمنيّة التي تسيطر عليها بالكامل عناصر يمينية متطرّفة وثيقة الصّلة بواشنطن، ومكتفياً بإلقاء وعود بالعدالة وحماية حقوق الإنسان لا تتحقق. ومن المعروف أن رجل كولومبيا القويّ هو الميجور جنرال مارتينيز إسبينال قائد الجيش، بينما يتزايد باطراد تأثير ألفارو أوريبي الرّئيس الأسبق – أقصى اليمين الذي حكم البلاد بالحديد والنار بين 2002 و 2010 – في أوساط النخبة السياسيّة البرجوازيّة المهيمنة في البلاد والأخيرين كان شريكين كاملين في جرائم قتل واسعة النطاق نفّذها الجيش خارج القانون طوال عقد، بما فيها عمليّة (الإيجابيّة الكاذبة) الذّائعة الصيت، والتي قتل فيها آلاف الشبان الفقراء، واستخدمت جثثهم بعد تمويهها بثياب الثوار للدّلالة أمام السفارة الأمريكيّة على نجاعة عمليّات الجيش الحكوميّ ضد (فارك). أولئك الشّبان كانوا استدعوا حينها إلى معسكرات خاصة للالتحاق بعروض عمل حكوميّ كاذبة، وقد تأكد أن الجنود الذين نفذوا عمليّات التصفية حصلوا على مكافآت ماليّة، وحوافز رسميّة مقابل جهودهم في العمليّة

هنالك ميلشيات يمينيّة سيئة السّمعة تديرها المخابرات المركزيّة الأمريكيّة وتطلق على نفسها اسم (النّسور السوداء) تنفّذ اعدامات وملاحقات تستهدف الناشطين اليساريين مدنيين وثواراً، إضافة إلى قوّات مرتزقة يمولها كبار ملاك الأراضي والشركات المتعددة الجنسيّة وتمارس عنفاً متطرفاً ضد أي احتجاجات تجاه الاستغلال

وقد أثار تحقيق كتبه الصحفي الأمريكي نيكولاس كيسي ونشرته نيويورك تايمز في شهر مايو / أيّار الماضي الخشية من أن (الإيجابيّة الكاذبة) ما زالت نظاماً معتمداً في العمليّات العسكريّة الحكوميّة بشكل أو آخر، بعدما كشف عن أن قيادة الجيش وجّهت تعليمات للوحدات الفاعلة بمضاعفة كوتات أعمال القتل الشهريّة ضد المعارضين، ومن ثم تمويه جثثهم بملابس الثّوار المعارضين لاتفاق السلام. وقد طُرد كيسي بعد نشر التحقيق من بوغوتا، ولم تشفع له جنسيته الأمريكّية المقدّسة في كولومبيا، ولم تتدخل سفارة بلاده مطلقاً، بينما سارع الرئيس دوكي ماركيز – كعادته – إلى الوعد بالتدقيق في ممارسات الجيش مع اعتباره ما جرى مجرد سلوكٍ معزولٍ من أفراد محدودين

ولا تقتصر الحرب المستمرة على فقراء كولومبيا على مساهمات الجيش الفاعلة. إذ أن هنالك ميلشيات يمينيّة سيئة السّمعة تديرها المخابرات المركزيّة الأمريكيّة وتطلق على نفسها اسم (النّسور السوداء) تنفّذ اعدامات وملاحقات تستهدف الناشطين اليساريين مدنيين وثواراً، إضافة إلى قوّات مرتزقة يمولها كبار ملاك الأراضي والشركات المتعددة الجنسيّة وتمارس عنفاً متطرفاً ضد أي احتجاجات تجاه الاستغلال ونهب موارد البلاد، وكذلك عملاء كارتيل المخدرات المكسيكيّ الشهير سينولا والذي يتولى توريد كميّات الكوكايين الضخمة من مزارعه في كولومبيا والمخصصة للترويج بين صفوف الأقليّة الأفرو-أمريكيّة السّوداء في الولايات المتحدّة، ناهيك عن المجرمين والمافيات المحليّة في المناطق التي سلّمتها قوات (فارك) للحكومة، وأصبحت جزر فراغ أمني في كل مناطق جنوب البلاد الوعرة والمهملة اقتصادياً وخدماتياً اهمالاً مزمناً

Image result for colombia FARC JPG
عادت بلاد جابرييل غارسيا ماركيز مجدداً إلى مرحلة المائة سنة الأخيرة من العزلة والموت وانتهاكات حقوق الإنسان التي أدمنتها كولومبيا، ولا يريد لها الأمريكيّون شفاء منها

ويتعرّض الفّلاحون ومالكو قطع الأراضي الصغيرة في تلك المناطق إلى ضغوط اقتصاديّة غير مسبوقة بعدما قبلوا – وفق اتفاق 2016 – بالتوقّف عن زراعة نبتة الكوكا التي يستخلص منها الكوكايين، والانتقال إلى زراعة محاصيل تجاريّة أخرى مقابل الحصول على دعم حكوميّ يعوضهم جزئياً عن الفرق. لكن ممثلي الحكومة الذين ظهروا فور توقيع اتفاق السّلام أمام كاميرات الصحافة وهم يستلمون طلبات الدّعم تلك من الفلاحين اختفوا تماماً، ولم يسمع عنهم شيء منذ ذلك الحين، بينما يتعرّض من يجرؤ على العودة إلى زراعة الكوكا إلى انتقام عملاء سينولا الذين أبلغوا الجميع بوضوح بأنهم لا يريدون منافسين لهم في سوق زراعة المخدرات

وهكذا يتبخّر شهيداً شهيداً سراب اتفاق سلام 2016 بين الحكومة البرجوازيّة وخصومها والذي رعته السّفارة الامريكيّة في إعادة هزليّة لاتفاق السّلام السابق الذي وقعه النظام الكولومبي مع ثوار حزب الاتحاد الوطني اليساري في الثمانينيات من القرن الماضي – وبرعاية ذات السفارة – وانتهى بحملة تصفية ممنهجة حصدت أرواح آلاف الثوار المستسلمين، أعادت بلاد جابرييل غارسيا ماركيز مجدداً إلى مرحلة المائة سنة الأخيرة من العزلة والموت وانتهاكات حقوق الإنسان التي أدمنتها كولومبيا، ولا يريد لها الأمريكيّون شفاء منها، وهو أمر قد يفسّر إصرار فقراء الجار الفنزويليّ، الأقرب جغرافياً وعاطفياً للكولومبيين على الالتفاف حول ثورتهم البوليفاريّة، وإسقاط انقلابات اليمين المتأمرك 

نشرت نسخة مختصرة من هذا المقال في جريدة الأخبار اللبنانيّة صفحة الدّوليّات في عدد الإثنين 26 آب 2019

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.