أعماله وكأنها سجل لتطورات الحياة الإجتماعيّة للطّبقة العاملة الأمريكيّة: ستيفن كينغ في سبعينه إمبراطوراً متوجاً لفن الرّعب المكتوب

سمعة كينغ العالميّة كصانع رعب قامت على نتاج خمسين عاماً من تدبيج النّصوص الدمويّة عن شخصيّات تائهة تنتمي لمجتمعات مهمّشة، فصُنّف كتاجر ثرثار – رواياته لا تقل عادة عن 500 صفحة – يبيع دماء وتعذيباً وميتات مؤلمة لجمهور يزداد إغتراباً في ظل الرأسماليّة المتأخرة. الدّماء والعنف والتخويف تبنى الأمبراطوريّات، وكينغ سفك من الدماء في مسيرته ما يجعله مؤهلاً وبإقتدار ليكون إمبراطور مملكة الرّعب المعشش في عقول غالبية النوع البشر

ستيفن كينغ: الإمبراطور المتّوج لفن الرّعب المكتوب في الثقافة الامريكيّة المعاصرة

لا يمكن أن يختلف إثنان – أمريكيان على الأقل إن لم نقل في الغرب قاطبة – على أن الروائي الأمريكي ستيفن كينغ (مواليد 1947) وحده يمكن أن يكون الإمبراطور المتّوج لفن الرّعب المكتوب في الثقافة الامريكيّة المعاصرة. فالرّجل الذي حاز تكريمات رسميّة وجوائز عديدة حصل على أفضل تكريم يمكن أن يتلقاه كاتب من خلال إقبال جمهرة القرّاء غير المسبوق على كتبه عبر العالم واللغات، فباعت أعماله التي تقارب ال 45 رواية بطبعاتها المختلفة ما يزيد عن 350 مليون نسخة وفق بعض التقديرات، ويعاد طبع العديد منها دوريّاً، وتتوفر على نطاق واسع في معظم المكتبات في الغرب

كينغ – الذي يتم السبعين من عمره هذا العام – خطف الأضواء من جديد بتقديم خمسة من أعماله كأفلام سينمائيّة ومسلسلات دفعة واحدة أثارت ضجة واسعة وإقبالاً ممتازاً من الجمهور سواء في قاعات السينما أو على شبكة نيتفليكس: البرج المظلم، .و أخيراً لعبة جيرالد ،IT، مسلسل الضباب، مسلسل السيّد مرسيدس

سمعة كينغ العالميّة كصانع رعب قامت على نتاج خمسين عاماً من تدبيج النّصوص الدمويّة عن شخصيّات تائهة تنتمي لمجتمعات مهمّشة

بالطبع كينغ ليس بالطارىء على عالم الرعب المصّور – وإن كان ينقل عنه إنحيازه لخبرة الكتاب المطبوع فوق أي خبرة أخرى -،  فهنالك أكثر من 60 فيلماً سينمائيّاً و30 مسلسلاً تلفزيونياً أنتجت مستلهمة رواياته، هذا دون الأفلام القصيرة التي يسمح لمخرجين شباب بإنتاجها لقصصه القصيرة، بل إنّه جرّب أن ينتج بنفسه أحد تلك الأفلام (1986)، لكنّه ما لبث وصرف النّظر عن تلك التجربة وترك مهمة إنتاج رواياته للسينما والتلفزيون لمخرجين محترفين، مكتفياً بإنتقادهم وإلقاء التهم عليهم لتقصيرهم في نقل روح العمل الأدبي إلى الصورة

سمعة كينغ العالميّة كصانع رعب قامت على نتاج خمسين عاماً من تدبيج النّصوص الدمويّة عن شخصيّات تائهة تنتمي لمجتمعات مهمّشة، فصُنّف كتاجر ثرثار – رواياته لا تقل عادة عن 500 صفحة – يبيع دماء وتعذيباً وميتات مؤلمة لجمهور يزداد إغتراباً في ظل الرأسماليّة المتأخرة. لكن النقاد بدأوا الآن فقط في استحضار موهبته الإستثنائيّة في استحضار وتوثيق تحولات أنساق الحياة الإجتماعيّة في المجتمعات والبلدات الصغيرة عبر الولايات المتحدة الأمريكيّة، وأنماط عيش طبقتها العاملة تحديداً من ذوي الياقات الزرق. بالتأكيد فإن الرّعب هو سيّد المشهد في مجمل أعمال كينغ، لكنه أيضاً يلتقط ويرسم بحرفيّة تفاصيل مذهلة عن الأمريكيين العاديين وطريقة كلامهم وتحولات لهجاتهم، وهواجسهم اليوميّة، وأنواع طعامهم، وطبيعة لبسهم، وعلاقاتهم العائليّة والزوجيّة والجنسيّة، وصداقاتهم الإجتماعيّة الطويلة المدى غالباً، وطرق تحصيلهم لرزقهم، بل وحتّى أسماء الأصناف الإستهلاكيّة التي يبتاعونها، ونوعيّة المتاجر التي يشترونها منها

الرّعب هو سيّد المشهد في مجمل أعمال كينغ، لكنه أيضاً يلتقط ويرسم بحرفيّة تفاصيل مذهلة عن الأمريكيين العاديين

هذه المعلومات بمجملها تمثل منجماً ذهبيّاً لعلماء الإنثروبولوجيا وخبراء الثقافة الشعبيّة المعنيين بفهم حياة الأمريكي العادي خارج المدن الميتروبوليّة الكبرى. وتلك أيضاً ربما هي مأساة الأفلام التي حوّلت أعماله إلى الشاشة عبر السنوات، إذ غرقت غالباً في استعراض مشاهد العنف الشاذة دون أن تنقل بإهتمام معادل ذلك النفس الإنثروبولوجي العميق الذي حملته نصوص روايات كينغ المطبوعة، فانتهت كثرة منها كما كاريكاتيرات مضخمة للسرد، ضحالتها تكاد لا تخفى

هذا يفسّر دون شك قرار المهرجان السينمائي الخاص للإحتفال بسبعينيّة كينغ بإستبعاد ثلثي مجموع الأعمال السينمائيّة التي استلهمت رواياته من قائمة العروض، ويضعنا في موقع التعاطف مع كينغ الذي طالما عبّر عن امتعاضه من تقصير تلك الأفلام في تقديم المحتوى الحقيقي لرواياته بمن فيها أعمال لمخرجين كبار مثل ستانلي كوبريك الذي وصف كينغ تقديمه لفيلم (البريق – 1980 / بطولة جاك نيكلسون) بأنّه أشبه بسيارة كاديلادك فخمة لا محرّك لها

نصوص كينغ تتفنن في رسم تفاصيل صور العنف المجاني

وللإنصاف فإن الفيلم السينمائي كوسيلة فنيّة ذات مدى زمني وبصري محدود في إطار لا يزيد عادة عن ساعتين كحد أقصى لا يمكنه تقديم الثراء الكامن في النصوص الروائيّة الطويلة. وحتى المسلسلات التي تتمتع بفرصة أفضل لكونها يمكن أن تقدّم على حلقات كثيرة لطالما أُنتقدت على مثل هذا التقصير كما في (الحرب والسلام لتولستوي) و(آلهة أمريكيّة لنيل غايمان)، فما بالك بنصوص تتفنن في رسم تفاصيل صور العنف المجاني كما هي عند كينغ. وهو ما يظهر جليّاً عند مقارنة النتاج الأفضل بمجموعه للأفلام المأخوذة عن قصص كينغ القصيرة التي تبدو أقدر على قراءة حرارة النص الكينغي – إن جاز التعبير

ومع ذلك فإن كثيراً من الأفلام المقتبسة عن (ملك الرّعب) لا تنجح في مجاراة مهارته الإستثنائيّة في الدّخول إلى أعماق النفسيّات المعقدة والمركبّة لشخصيات أعماله الشديدة البؤس الروحي وتكتفي بالتركيز على قدرة تلك الشخصيّات على إرتكاب العنف. العنف عند كينغ ليس قلب النص أو صدمة أحداث تفاجىء قارئها، بقدر ما هو خلفيّة ونتاج لتعقّد الشخصيّات ومكوّن أساسي من تصاعد بنيتها عبر الأحداث، ولذا فإن رواياته ثريّة دائماً بحوارات مكثّفة بين شخصيّات محاصرة في فضاءات معزولة على نحو يجعل من تلك الحوارات أساس اللحظة الدراميّة 

الرجل صار صنو أدب الرّعب وظاهرته الأهم خلال آخر نصف قرن من عمر البشريّة، لدرجةأنّه لا يذكر هذا النّوع الأدبي إلا ويذكر كينغ معه

مع هذا التوتر العلني بين كينغ والمُخرجين السينمائيين بالذّات، فإن أعماله لا تلبث أن تثير التحدي في قلوبهم لأنها تقدّم للمخرج مادة مثاليّة للتعبير السينمائي: شخصيات متعددة، و حوارات عميقة وتحليل ذكي لديناميات القوة في المجتمع الأمريكي من خلال العلاقات في مجتمع محلي صغير. آخرهؤلاء المخرج الأمريكي النجم جيه. جيه. أبرامزالذي سينتج عملاً يستدعي شخصيات متنوعة من أعمال مختلفة لكينغ لتتقاطع مصائرها على ساحة مدينة ماين الأمريكيّة – مسقط رأس كينغ ومدينته الأثيرة ومَسرح عدّة روايات من أهم أعماله

من أين يأتي كينغ بمادته الروائيّة الموغلة في التناقض بين بساطة العيش في هوامش أمريكا وتعقد دواخل نفوس قاطنيها؟ شخصيات رواياته تكاد تتطابق مع ناس مجتمع كينغ الذي شب مع أم وحيدة تركها زوجها لتشقى في تربية طفلين، وكانت تعمل طاهية لوقت طويل كل يوم تاركة إياه وحيداً بين الكتب والخيال. من أجواء قاع الطبقة العاملة تلك استعار كينغ شخصيّات أبطاله، لكن خَياله العبقري كان يعترض إيقاع حياتهم الإعتيادي  فيُعرّضهم لظروف استثنائيّة قادرة على تحويلهم لوحوش أو مسوخ بشر فيكونوا مجرمين وضحايا في آن 

في سبعينه يسابق كينغ الزمن، فيكتب بكثافة رغم ضعف بصره المتزايد، وأمراضه الكثيرة. لم تعد تعنيه النقود، فما يكسبه أسبوعياً من ريع أعماله السابقة يزيد عن عشرة ملايين دولار وهو يعيش في قصر هائل في مدينته ماين، لكنه مع ذلك يكتب كل يوم كما لو كانت الكتابة هواءه الّذي يتنشق

من أجواء قاع الطبقة العاملة تلك استعار كينغ شخصيّات أبطاله، لكن خَياله العبقري كان يعترض إيقاع حياتهم الإعتيادي  فيُعرّضهم لظروف استثنائيّة قادرة على تحويلهم لوحوش أو مسوخ بشر فيكونوا مجرمين وضحايا في آن

كينغ لم يعد بعد نصف قرن من بث الرّعب في قلوب (ومشاهدي أفلامه) – الذين يبدو أنهم لا يعتبرون ويعودون دائماً للمزيد من مشاهد العنف  – لم يعد مجرد إمبراطور متوجٍ للرّعب في الثقافة الشعبيّة الأميركيّة. فنقاد (كينغ) – الذي كتب أعمالا جدّ قليلة خارج نطاق أجواء العنف – متوافقون على أن الرجل صنو أدب الرّعب وظاهرته الأهم خلال آخر نصف قرن من عمر البشريّة، لدرجة لا يذكر هذا النّوع الأدبي إلا ويذكر كينغ معه. بالدّماء والعنف والتخويف تبنى الأمبراطوريّات، وكينغ سفك من الدماء في مسيرته ما يجعله مؤهلاً و بإقتدار ليكون امبراطور مملكة الرّعب المعشش في عقول غالبية النوع البشري

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.