فلسطين تتحدث باسم الجميع

جودي دين، ترجمة سعيد محمد

كانت الصور التي التقطت في السابع من أكتوبر 7 تشرين الأول/ لطيارين مظليين يخترقون الدفاعات الجوية الإسرائيلية مبهجة بالنسبة للكثيرين منا. تلك كانت لحظات الحرية التي هزمت التوقعات الصهيونية بالخضوع للاحتلال والحصار، وشهدنا فيها أعمالا تبدو مستحيلة من الشجاعة والتحدي في مواجهة ردة الفعل المؤكدة بالتدمير الذي سيتبع ذلك (فكون إسرائيل تمارس حرباً غير متكافئة وترد بقوة غير متناسبة ليس سراً). من منا لم يشعر بالحماس لرؤية المضطهدين وهم يهدمون الأسوار التي تحيط بهم، ويحلقون في السماء هرباً، ويطيرون بحرية في الهواء؟ إن تحطيم الحس الجماعي للممكن جعل الأمر يبدو كما لو أن أي شخص يمكن أن يكون حراً، كما لو أن الإمبريالية والاحتلال والقمع يمكن الإطاحة بها وسيتم الإطاحة بها. وكما كتبت المقاتلة الفلسطينية ليلى خالد عن عملية اختطاف ناجحة في مذكراتها بعنوان “شعبي سيعيش”، “بدا الأمر أكثر إثارة كلما كانت معنويات شعبنا أفضل”. مثل هذه الأعمال تثقب سقوف التوقعات، وتخلق إحساساً جديداً بالممكن، وتحرر الناس من اليأس والقنوط.  

عندما نشهد مثل هذه الأفعال، يشعر الكثير منا أيضاً بتلك الحالة من الانفتاح. شعورنا ذاك انعكاس لتأثير الموضوع الذي تطلقه الأفعال: لقد تغير شيء ما في العالم بعد السابع من أكتوبر لأن الموضوع قد شقّ فجوة في المعطى المألوف. ولأستعير جدليّة آلان باديو، نرى أن الفعل كان بسبب (موضوع)، لكنه يعيد انتاج هذا الموضوع كأثر ناتج عن الفعل الذي تسبب فيه. تحاول الإمبريالية إسكات هذه المشاعر قبل أن تنتشر بعيداً لأنّها تدينها، وتكشف تجاوزاتها.

إن صور الفلسطينيين التي يسمح لنا بأن نراها في بيئاتنا الإمبريالية هي عادة مشاهد للدمار والفجيعة والموت حيث إنسانية الفلسطينيين مشروطة بمعاناتهم، وبما فقدوه، وبما يتحملونه. ولذلك فهم يحصلون على التعاطف، ولكن ليس على التحرر. التحرر سينهي التعاطف. هذه الصورة للضحية تنتج الفلسطيني “الطيب” كمدني، وربما أفضل كطفل، أو امرأة، أو شيخ. أما أولئك الذين يقاتلون، وبخاصة كجزء من مجموعات منظمة، هم سيئون: العدو المتوحش الذي يجب القضاء عليه. لكن الجميع، عند الإمبريالية، هدف. وهكذا فإن خطيئة استهداف الفلسطينيين “الطيبين” تحمّل على عاتق الفلسطينيين “الأشرار”، وهو مبرر إضافي للقضاء عليهم: فكل شبر من غزة يوفر مخبأ للإرهابيين. إن ضبط الأمن يعني بالضرورة استحالة وجود إنسان فلسطيني حر.

إن الهيمنة المستمرة على الأفكار هي جزء من القمع السياسي. فأي شيء يمكن أن يوقظ شعور المضطهدين بأنهم سوف يتحررون، وأن الاحتلال والحصار سينتهيان، ينبغي أن يخمد بلا رحمة. يختزل الإمبرياليون والصهاينة السابع من أكتوبر في قائمة من الفظائع ليس فقط لحجب تاريخ وواقع الاستعمار والاحتلال والحصار المستمر منذ عشرات السنين، بل وأيضاً لمنع ربط الفجوة في المعطى المألوف والمعتاد مع أصل الموضوع الذي تسبب فيها.

بدأت الانتفاضة الأولى، في عام 1987، مع “ليلة الطائرات الشراعية”. في 25 و26 نوفمبر/تشرين الثاني، هبط مقاتلان فلسطينيان من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل. استشهد كلاهما، لكن أحدهم قتل ستة جنود إسرائيليين وجرح سبعة آخرين قبل استشهاده. بعد ذلك، أصبح الفدائيان أبطالاً قومين، وكتب عنهم سكان غزة على جدرانهم ساخرين من الجنود الإسرائيليين. حتى ياسر عرفات نفسه أشاد بالمقاتلين، وقال: “لقد أظهر هذا الهجوم أنه لا حواجز أو عقبات يمكن أن توقف فدائياً عزم على نيل الشهادة”. وبالفعل فإن لا شيء يمكن أن يعيق الفدائيين أو يمنعهم من العودة إلى بلادهم إذا كانت لديهم الإرادة للطيران. لقد أشعلت ليلة الطائرات الشراعية الطاقات العاطفية للثورة الفلسطينية التي جاءت بعد هزيمة العرب في يونيو 1967 وحفزت حرب الغوار بعد معركة الكرامة في مارس 1968. بعد ليلة الطائرات الشراعية والانتفاضة (الأولى) التي تلتها، أصبح أن تكون فلسطينياً يعني التمرد والمقاومة مجدداً، بدلاً من الإذعان لصيغ المواطنة من الدرجة الثانية، والقبول بوضع اللاجئ.

في عام 2018، خلال مسيرة العودة الكبرى، استخدم سكان غزة الطائرات الورقية والبالونات لتفادي الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وإشعال الحرائق في الأراضي الإسرائيلية. الشبان الفلسطينيون الصغار كانوا أول من ابتدع فكرة إرسال الطائرات الورقية النارية، لكن في وقت لاحق، تدخلت حركة (حماس)، وأنشأت وحدة الزواري المتخصصة في صنع وإطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة. ورفعت تلك الطائرات الورقية والبالونات الروح المعنوية لسكان غزة، بينما أضرّت بالاقتصاد الإسرائيلي، وأثارت غضب المستوطنين الذين يعيشون بالقرب من حدود غزة. وقتها، ورداً على تصريحات صحفي إيطالي حول “السلاح الجديد الأيقوني” الذي “يدفع إسرائيل إلى الجنون”، أوضح زعيم حماس، يحيى السنوار: “الطائرات الورقية ليست سلاحاً. على الأكثر، أشعلت النار في بعض الشجيرات. وبطفاية حريق ينتهى الأمر. إنها ليست سلاحاً، بل هي رسالة. لأنها مجرد خيوط وورق وقطعة قماش مبللة بالبنزين، في حين أن كل بطارية من القبة الحديدية تكلف 100 مليون دولار. تقول تلك الطائرات الورقية للإسرائيلي: أنت أقوى بكثير. لكنك لن تنتصر علينا أبداً. أبداً”.

هناك سياق آخر لقراءة الطائرات الورقية في غزة كرسائل من شعب يرفض الخضوع. في عام 2011، حطم 15 ألف طفل فلسطيني على شاطئ غزة الرقم القياسي العالمي لأكبر عدد من الطائرات الورقية التي تم إطلاقها في نفس الوقت. وظهرت على العديد من الطائرات الورقية أعلام ورموز فلسطينية، فضلا عن أمنيات السلام والأمل. وقالت راوية، البالغة من العمر أحد عشر عاماً، والتي صنعت طائرتها الورقية بألوان العلم الفلسطيني: “عندما أرفعها، أشعر وكأنني أحلق ببلدي وعلمي في السماء”. يحكي الفيلم الوثائقي “الورق الطائر- 2013” من إخراج نيتين ساوني وروجر هيل، قصة بعض طياري الطائرات الورقية الفلسطينيين الشباب. يقولون “عندما نطيّر الطائرات الورقية، نشعر وكأننا نحن الذين نطير في السماء. نشعر أن لدينا الحرية. أنه لا يوجد حصار على غزة. عندما نطير بالطائرة الورقية، نوقن أن الحرية ممكنة”. وفي وقت سابق من هذا العام، أطلقت الطائرات الورقية في مظاهرات تضامنية جرت في جميع أنحاء العالم، معبرة عن الأمل والإرادة من أجل حرية الفلسطينيين.

في قصيدة رفعت العرعير الأخيرة “إذا كان لا بد لي من الموت” إشارة إلى العلاقة بين الطائرات الورقية والأمل. انتشر مقطع فيديو لبريان كوكس وهو يقرأ القصيدة على الإنترنت بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي العرعير في غارة جوية دمرت منزل (شقيقته في غزة):

إذا كان لا بدّ أن أموت..

فلا بد أن تعيش أنت لتروي حكايتي..

لتبيع أشيائي..

وتشتري قطعة قماش وخيوطًا..

فلتكن بيضاء بذيل طويل..

كي يرى طفل في مكان ما من غزّة..

بينما يحدّق في السماء..

منتظرًا أباه الذي رحل فجأة، دون أن يودّع أحدًا، ولا حتى لحمه أو ذاته،

يرى الطائرة الورقيّة

طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت..

تحلّق في الأعالي..

فيظنّ لوهلة أن هنالك ملاكًا يُعيد الحب..

إذا كان لا بد أن أموت.. فليأتِ موتي بالأمل..

فليغدو حكاية”

الطائرة الورقية هي رسالة حب. إنها صنعت للتحليق، وفي التحليق يخلق الأمل.

تعنى كلمات العرعير الأخيرة بصنع الطائرة الورقية، وتجميعها من القماش والخيوط، وكذلك تحليقها في السماء. فالطائرة الورقية عنده أكثر من مجرد رمز للحداد. إنه انخراط في تفاؤل الإرادة العملي، وهو عنصر من عناصر العملية الموضوعية التي تشكّل موضوع السياسة: “أنت” الذي طلب إليك العرعير أن تصنع الطائرة الورقية وتروي حكايته.

في عام 1998، بنى الفلسطينيون مطار ياسر عرفات الدولي الذي لم تلبث أن سوته الجرافات الإسرائيلية بالأرض (في عام 2001 أثناء الانتفاضة الثانية).  وكما أوضحت هند الخضري، كان المطار مرتبطاَ ارتباطا وثيقاً بحلم إقامة دولة فلسطينية. الخضري التي أجرت مقابلات مع العمال الذين شيدوا المطار قبل تحوله لاحقاً إلى أنقاض كتبت: “كان مطار غزة أكثر من مجرد مشروع. كان رمزاً للحرية بالنسبة للفلسطينيين. أن يحلق العلم الفلسطيني في السماء كان حلم كل فلسطيني”.

يواصل المظليون الذين طاروا إلى أرضهم المحتلة في السابع من أكتوبر التقليد الثوري للتحرر من القيود والتحليق. على الرغم من أن القوى الإمبريالية والصهيونية تحاول اختزال العمل في شخص (إرهاب حماس)، وتصر بعكس كل الأدلة الموضوعية على أنه مع إفناء (حماس) ستختفي المقاومة الفلسطينية ، فإن إرادة النضال من أجل حرية الفلسطينيين تسبقها، وتتجاوزها. لم تكن (حماس) موضوع هجوم السابع من أكتوبر. لقد كانت مجرد عامل يأمل بأن يستعاد الموضوع الفلسطيني كأثر لعملها، وهو أحدث تجسيد للثورة الفلسطينية.

وتنطبق الكلمات التي استخدمتها ليلى خالد للدفاع عن عدالة تكتيك اختطاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على أحداث السابع من أكتوبر. كتبت خالد: “كما قال أحد الرفاق: نحن نتصرف ببطولة في عالم جبان لنثبت أن العدو يمكن أن يقهر. نحن نتصرف “بعنف” من أجل أن ننزع الشمع من آذان الليبراليين الغربيين الصم، ونزيل القش الذي يحجب رؤيتهم. نحن نعمل كثوريين لإلهام الجماهير، وإثارة الاضطرابات الثورية في عصر الثورة المضادة”.

كيف يمكن لشعب مضطهد أن يعتقد أن التغيير ممكن؟ كيف يمكن للحركات التي عانت عقوداً من الهزائم أن تشعر بأنها قادرة على الانتصار؟ وثقت سارة روي ذلك اليأس طغى على غزة والضفة الغربية قبل السابع من أكتوبر. فالانقسامات الفصائلية، والشعور بأن حماس مثلها مثل فتح تتعاون بشكل مكثف مع إسرائيل قد بدد الثقة في إمكان بناء مشروع موحد وطنياً. قال أحد الأصدقاء لروي: “أصبحت مطالبنا السابقة بلا معنى. لا أحد يتحدث عن القدس أو حق العودة. كل ما نريده الآن الأمن الغذائي والمعابر المفتوحة”. لقد حطم طوفان الأقصى كل ذلك اليأس. لقد رفض تحالف المقاومين من حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني قبول الهزيمة والخضوع لإذلال الموت البطيء. تم تصميم عمليتهم في السابع من أكتوبر بحيث يستعاد النفس الثوري وتأثيره على الجماهير.

في الأشهر الستة منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على فلسطين، كان هناك زيادة ملحوظة في التضامن العالمي مع الفلسطينيين، ذكرتنا بموجة سابقة خلال سبعينيات و ثمانينيات القرن العشرين. وكما أخبرنا إدوارد سعيد، بحلول نهاية السبعينيات “لم تكن هناك قضية سياسية تقدمية لا تتماهى مع الحركة الفلسطينية”. التضامن مع فلسطين حينها وحد اليسار، ونسج نضالات التحرير معاً في جبهة عالمية مناهضة للإمبريالية. وكما يقول المؤرخ روبن كيلي: “نحن الراديكاليون اعتبرنا منظمة التحرير الفلسطينية طليعة نضال عالمي من أجل تقرير المصير يسير على طول (طريق مناهض للرأسماليّة) نحو التنمية”. إن نضال الشعب الفلسطيني وتفانيه جعلا من مقاتليه الثوريين نماذج ملهمة لليسار.

إن النضال من أجل تحرير الفلسطينيين اليوم تقوده حركة المقاومة الإسلامية – حماس، وهي تتلقى دعم كل اليسار الفلسطيني المنظم. كان المرء يتوقع أن يتبع اليسار الغربي في قلب العالم الإمبريالي قيادة اليسار الفلسطيني في دعمها للمقاومة، لكن في كثير من الأحيان، يردد المثقفون اليساريون الإدانات التي تجعلها الدول الإمبريالية شرطاً للحديث عن فلسطين. وبذلك، فإنهم ينحازون ضد الثورة الفلسطينية، ويعطون وجهاً تقدمياً لقمع المشروع السياسي الفلسطيني، ويخوّنون التّطلعات المناهضة للإمبريالية التي حملها الجيل السابق.

تعد مقالة جوديث بتلر في 19 أكتوبر/ تشرين الأول مجلة لندن لمراجعات الكتب مثالاً ساطعاً على ذلك، إذ بدلاً من مركزة موضوع النكبة والمقاومة الفلسطينية التي دامت خمسة وسبعين عاماً في قلب تحليلها، انتقدت بتلر طلاب جامعة هارفارد الذين دافعوا عن عمليات القتل التي ارتكبتها حماس. وأصدرت جماعات التضامن مع فلسطين بالجامعة بياناً حمّلت فيه النظام الإسرائيلي “المسؤولية الكاملة عن كل أعمال العنف الجارية”. وتنبأت بتلر في مقالها بتوجه سرعان ما سيطر على الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة، كما حدث في كولومبيا وكورنيل وبنسلفانيا وهارفارد وروتشستر وأماكن أخرى. لقد حول الأكاديميون الانتباه من واقع عنف الإبادة الجماعية في غزة إلى مسألة توفير بيئة عاطفية آمنة لطلاب الجامعات الأمريكية المرفهين. كان استهداف بتلر للطلاب – لغتهم ومشاعرهم ، وكيف عبروا عن أنفسهم – نموذجا مسبقاً لجلسات الاستماع في الكونجرس التي أدت لاحقاً إلى استقالة رئيسي كل من هارفارد وبنسلفانيا.

ضد موقف طلاب هارفارد، أدانت بتلر “ودون تحفظ، العنف الذي ارتكبته حماس”. لا تعتقد بتلر أن مثل هذه الإدانة هي منتهى السياسة أو أنها لازمة لتعلم تاريخ المنطقة فحسب، بل وتصر أن تكون الإدانة مصحوبة برؤية أخلاقية. وفق بتلر، هذه الرؤية قد تشمل المساواة في حقوق التّظلم، والتزام الحداد، وكذلك أشكالاً جديدة من الحرية السياسية والعدالة. لكنّها تستثني من هذه الرؤية حركة حماس التي تتعامل معها على أنها مسؤولة بشكل فردي عن هجوم السابع من أكتوبر، متعمدة تجاهل حقيقة أن فدائيين فلسطينيين من مختلف التنظيمات شاركت في العملية، مما يشير إلى دعم للعملية وللجناح العسكري لحماس بما يمتد إلى ما هو أبعد مجرد من تأييد الحركة التي انتخبت ديمقراطياً لحكم غزة. علاوة على ذلك، تريد بتلر أن تكون جزءاً من عمليّة التخيل والنضال من أجل نوع تحقيق المساواة التي من شأنها أن تجبر جماعات مثل حماس “على الاختفاء”. لم توضح بتلر من يمكن أن يتأهل ليكون “مثل حماس”، ولا ما هي الخصائص التي قد تستهدف مجموعة محددة لتختفي. فإذا كان ذلك على سبيل المثال تبني تلك المجموعة للاستخدام العنيف للقوة، فإن النضال التحرري لشعب مستعمر ومحتل ومضطهد مستبعد مسبقاً من نموذج بتلر للنضال. وهكذا يكون الأفق السياسي الذي وحد القوى التقدمية بحلول نهاية السبعينيات قد انتهى وتم وأده.

في رغبتها “إجبار جماعات مثل حماس على الاختفاء”، يتداخل موقف بتلر مع موقف جو بايدن وبنيامين نتنياهو. وبينما هي على عكسهم، تستخدم مصطلحات الاحتلال وترفضه، لكنها تردد مواقفهم وتكتيكاتهم في فصل حماس عن فلسطين وجعل تحرر الفلسطينيين مشروطاً بهذا الفصل. ولكن عندما تكون حماس هي القائد المعترف به والمقبول على نطاق واسع للنضال من أجل فلسطين حرة، فإن الدعوة إلى اختفائها وتفكيكها هو فشل ذريع للتضامن الأممي. إنه يوجه ضربة ويدق إسفيناً في جبهة متحدة في مقاومة الإمبريالية. لقد جعلوا الدفاع عن حماس أمراً غير معقول لدرجة أنه بالكاد يمكن التطرق إليه ناهيك عن مناقشته، ويتم التعامل معه طريق الإدانة مقدماً، كما لو كان إغلاق لباب مغلق بالفعل. لقد أصبح “الانحياز إلى حماس” تهمة، وانتقاداً، بدلاً من تقبله كموقف يتخذه المرء في إطار موضوع صراع أساسي.

تقول بتلر إن حماس لديها “إجابة واحدة مرعبة ومروعة” على السؤال حول ما هو العالم الممكن بعد نهاية حكم الاستعمار الاستيطاني. لكنها لا تخبرنا بتلر ما هي تلك الإجابة بالتحديد. ولم تأت على أي ذكر للوثيقة السياسية التي أصدرتها المجموعة في عام 2017، والتي “قبلت إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وقرار الأمم المتحدة رقم 194 لحق العودة، وفكرة تقييد الكفاح المسلح للعمل ضمن حدود القانون الدولي”. هذه الوثيقة تبدو لي ليست مرعبة ولا مروعة، حتى لو كان من الصعب تخيل تحققها عمليّاً بالنظر لانتشار المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية. لاحقاً، وفي 13 ديسمبر، أصدرت بتلر اعتذاراً لطلاب هارفارد، واعترفت باحتمال أن تكون حماس “حركة للمقاومة المسلحة” يمكن وضعها في سياق تاريخ طويل من الكفاح الفلسطيني المسلح، أو على الأقل اعتبار أن تلك “أسئلة مهمة”، لكن الدفاع عن زعيم حركة التحرير الفلسطيني ظل بالنسبة لها خارج الطاولة. وفي 11 مارس 2024، قالت: “ليست كل أشكال المقاومة مبررة”.

الناس المضطهدون يقاتلون ضد مضطهديهم بكل الوسائل الممكنة. إنهم يختارون – ويضطرون إلى الاختيار من خلال الظروف التي تجري فيها نضالاتهم التحررية – الاستراتيجيات والتكتيكات التي يحتاجون إليها لتحقيق الانتصار: كم مقدار المقاومة التي سيتحملها الظالم؟ ما مقدار القوة التي سيستخدمها الظالم لقمع التمرد؟ ما مدى اعتماد الظالم على امتثال المظلوم؟ ما مقدار الازدراء الأخلاقي الذي يقبل الظالم باستيعابه؟ إن الاعتراف بالحق في مقاومة الظلم والظالم، والحق في تقرير المصير الوطني، يعني الدفاع عن أولئك الراغبين والقادرين على القتال ضد مضطهديهم. وليس من الضروري أن يكون هذا الدّفاع مطلقاً وغير نقدي، إذ كثيراً ما يجد الأفراد والجماعات والدول أنفسهم في موقف سياسي للدّفاع عن أولئك الذين قد لا يتفقون معهم بالضرورة -. لكن هذا الدّفاع يجب أن ينطلق توجهه من المضطهدين في نضالهم من أجل التحرر، وليس من الظالم أو من النظام الإمبريالي الأكبر الذي يمكّن للاضطهاد ويضفي الشرعية عليه. يجب أن نجذر التضامن في العوامل المشتركة لنا مع مقاومة المضطهدين بدلاً من البحث عن قواسم مشتركة مع القمع ، على حد تعبير روبن كيلي، وهذه فكرة ليست جديدة، ولها تاريخ طويل في النضال ضد الإمبريالية والتحرر الوطني.

إن تراجع التضامن من قبل مدعي مناهضة الإمبريالية كما يظهر في مواقف مثل موقف بتلر يعكس تقليصاً متعمداً لتقليص مساحة التسييس وتوجهات مختلفة ومتضائلة من الوعود. في هذه الأيام – على الأقل حتى السابع من أكتوبر – يشتكى الناس من أن اليسار غير موجود أو ، إن هم إن لم يفتقدوه ، يتصورونه كفسيفساء لعدد لا يحصى من الأفراد بكل خياراتهم ومشاعرهم المتباينة. وحتى في الوقت الذي تحاول فيه المناشدات للبحث عن التقاطعات إقامة روابط بين القضايا التي عملت النيوليبرالية خلال أربعة عقود من على شرذمتها وفصلها، فإن الأسس القانونية للمنهج الليبرالي تقوم على تعريف الفرد كموضع للتقاطع وتحول كل القضايا إلى أسئلة هوية مع نزع التسييس على مستوى المجموع، فتعاد صياغة القضايا عن الأفراد وللأفراد. ماذا يفكر الفرد؟ هل يشعر بالراحة في التعبير عنها؟ ما هي التعبيرات اللغوية التي قد تهدد هذه الراحة وتقوض إحساسها بالأمان؟ إن حصر السياسة في إدارة المخاوف الفردية يعيد تأطير التمركز حول الذات على أنه أخلاقي، سواء في حرم الجامعات أو في المناطق التي تنظم الاحتجاجات العامة. هذا الانقباض ليس سوى لحظة واحدة في الإزاحة الأكثر عمومية ومنهجية للسياسة من خلال الأخلاق التي تتجلى في استبدال عمل الإغاثة بالتنظيم السياسي المقاوم، والإدارة المهنية بالنضال، والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بالأحزاب الثورية.

إن ما نواجهه (كيسار) ليس نقص التسييس فحسب، بل هزيمة تامة. السياسة مستمرة، ولكن في شكل منظم من خلال هذه الهزيمة. وبما أننا غير قادرين على تشكيل أنفسنا كجانب متماسك في النضال ضد الإمبريالية، لدينا صعوبة في اتخاذ موقف، ويعترينا الفشل في بناء رؤية للإجابة على سؤال في أي جانب نحن؟ حتى مجرد الاعتراف بوجود جوانب متناقضة يتم رفضه باعتباره تفكيرا ثنائياً أو عجزاً طفولياً عن قبول التعقيد والغموض.

تعطينا وثيقة استراتيجية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لعام 1969 نافذة على العالم السياسي الذي أثاره سعيد وكيلي، وهو العالم الذي لا تكتفي (أخلاقيات) بتلر بحجبه فحسب، بل وتعارضه بشدة من خلال خلقها الظروف الملائمة لتسيّد الخطاب الصهيوني والإمبريالي. وكان النص، الذي تمت صياغته في عام 1967 في أعقاب هزيمة حرب يونيو/حزيران، بمثابة الوثيقة التأسيسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ومن الأمور المركزية فيه مسألة الإمبريالية. فبعد الحرب العالمية الثانية، تقول الوثيقة، تجمعت القوى الرأسمالية الاستعمارية في معسكر واحد، بقيادة رأس المال الأمريكي، في حين أن البلدان الاشتراكية ونضالات التحرير شكلت معسكراً ثورياً معارضاً. وقد سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق مصالحها من خلال تكتيكات استعمارية جديدة لاحتواء نضالات التحرر الوطني حاولت. فعلاوة على الاستعداد لاستخدام القوة المسلحة – كما في الغزو الأمريكي المباشر لفيتنام وكوبا وجمهورية الدومينيكان -، فهي وبعد أن فشلت في منع الحركة العربية من الاندماج مع المعسكر الثوري العالمي، ألقت بمطلق دعمها العسكري وراء إسرائيل. وهذا يعني، بالنسبة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن النضال الفلسطيني لا يمكن أن يتجنب المواجهة مع القوة الهائلة للإمبريالية وميزتها التكنولوجية. ومن الناحية الاستراتيجية، لم يكن أمام فلسطين من خيار سوى الدخول في تحالف كامل مع جميع القوى الثورية على المستوى العالمي.

وتقول الوثيقة: “إن شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تعاني بصفة يومية من حياة البؤس والفقر والجهل والتخلف، التي هي نتاج مباشر للاستعمار والإمبريالية. إن الصراع الأساسي الذي يعيشه عالم اليوم هو الصراع بين استغلال الإمبريالية العالمية من جهة وهذه الشعوب والمعسكر الاشتراكي من جهة أخرى. إن تحالف حركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي مع حركة التحرر في فيتنام، والحالة الثورية في كوبا وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، وحركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، هو السبيل الوحيد لخلق معسكر قادر على مواجهة المعسكر الإمبريالي والانتصار عليه”.

وهكذا، فإن الحل السياسي لمشكلة فلسطين يتكشف بالضرورة كنضال عالمي ضد الإمبريالية. إننا في “كلنا فلسطينيون” تعبير عن انخراطنا في دعم الطرف الذي يقاتل في أي وقت من أجلنا جميعا. وعلى حد تعبير غسان كنفاني، الروائي والشاعر والعضو المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي اغتالته إسرائيل عام 1972، فإن “القضية الفلسطينية ليست قضية للفلسطينيين فقط، بل هي قضية لكل الثوريين، أينما كانوا، قضية للجماهير المستغلة والمضطهدة في عصرنا”.

في عدد من الجامعات، تم حظر شعار “من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة” حتى أنه كان هناك جدل دولي بشأنه كجزء آخر من الحرب على كل شعور بالتضامن مع فلسطين وإخماد للتأملات الذاتية التي أطلقتها عملية السابع من أكتوبر.  في ذهن كل منا. لكن ما يجب أن ينزعج منه الإمبرياليون حقا هو شعار آخر: “بالآلاف والملايين، نحن جميعاً فلسطينيون”.  فهذا تعبير عن موقف يرفض التشرذم، ويعترف بمناهضة للإمبريالية كأثر للقضية الفلسطينية. إنه يستبدل التشظيات والهويات الفردية التي ابتدعتها النيوليبراليات والإنسانات المعولمة المثيرة للانقسام بموقف موحد في مناهضة الإمبريالية. .

إننا حينما ندافع عن حماس فإننا نقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية، انطلاقاً من مبدأ ثوري: قضية محاربة الاحتلال والقمع، ونعترف بهذا الموضوع كنتيجة لعملية هي موضع نزاع ومفتوحة الأفق. والسؤال الآن: في أي جانب تقف أنت؟ مع التحرر أم مع الصهيونية والإمبريالية؟  إذ ثمة جانبان فقط، ولا توجد بدائل أخرى، ولا تفاوض على العلاقة بين الظالم والمظلوم. لا يمكن التعامل مع القمع من خلال تقديم تنازلات لمعايير التعبير المسموح به. لقد انتهى وهم التوسط، وتلاشت فكرة الجموع مع ظهور هذا الانقسام السياسي الحاد بكل وحشيته الصارخة.

ربما يشير هذا إلى صياغة كارل شميت الكلاسيكية للسياسي من حيث هو تكثيف لعلاقة الصديق/العدو. ولكنها تختلف في حالة اليوم في  تسلسلها الهرمي. فالاحتلال الاستعماري والاستغلال الإمبريالي ينتجان العداء، لكنه ليس عداء بين طرفيين متساويين في الصراع. إنها ليست حرب الجميع ضد الجميع. إنها حرب المضطهدين ضد مضطهديهم، وتمرد أولئك الذين يحرمون من حقهم في تقرير المصير ضد أولئك الذين ينكرون عليهم ذلك. ويستخدم الجانبان أنساقاً مختلفة جذرياً من المعنى: من داخل كل منهما، يبدو الآخر مجنونا ووحشياً، ولا عقلانياً، دون وجود لنقاط ثالثة يمكن من خلالها تقييم الوضع بشكل مستقل، أول سلطة سيادية محايدة أو نظام قانوني لا يتم جرفه في المحصلة إلى جانب أو آخر. لا يمكن إضافة اسماء القتلى إلى حساب يمكن تسويته في نهاية الأمر لتحقيق العدالة. والتاريخ لا يحدد الأمر. والتواريخ التي يجب أن نبدأ منها في سرد تسلسل الأحداث ليست مجرد خيارات، إذ أن الانقسام التأسيسي للسياسي فيما يجري يذهب عميقاً إلى الجذر.

قد يكون مغرياً التعامل مع فلسطين على أنها عرض من أعراض فشل أكبر: للقانون الدولي، على سبيل المثال، أو لنظام حقوق الإنسان أو للعالم اللزج للنيوليبرالية المعولمة. لكن فلسطين – باستبعادها تأسيساً – تشير إلى النقطة التي تتناقض عندها كل هذه الأنظمة مع نفسها وتسقط على ذاتها.. يجب أن نقاوم هذا الإغراء إذ يمكن عندئذ الزعم بأن القانوني يواجه دائماً حالات صعبة وتحديات تنفيذية دون أن ينهار. لقد نشرت النيوليبرالية المعولمة التفتت والفصل وتشظي الفضاء السياسي إلى مساحات فردية لا تعد ولا تحصى. وكما أثبت كوين سلوبوديان، فإن هذه اللامركزية واحدة من الآليات الأساسية لتأمين المصالح الطبقية الرأسمالية.. إن فلسطين ليست مجرد عرض لفشل أي نظام بقدر ما هي جبهة النضال ضد الإمبريالية. وعندما ثقبت المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر حاجز الاحتلال والقمع التي شيدتها الإمبريالية، عادت حقيقة هذا الجبهة إلى الظهور. إنها جبهة تواجه منظومة تستهدف إلغاءها بحقيقة أنها مستمرة في النضال ولن تفل إرادتها لتصحيح الظلم، واستعادة ما تم أخذه، واستحصال الحق كشعب وأمة ودولة لها حق تقرير المصير. إن فلسطين كناية عن قضية سياسية.  

 يمكن الاستعانة بأدب كثير لإغناء الفكرة السياسية الفلسطينية بما في ذلك مركزية المقاومة في أي تصور لهوية وطنية في أعقاب النكبة، وخصوصية التنوع الديني الفلسطيني (مسلمون، ومسيحيون ويهود)، وتشتت الفلسطينيين في جميع أنحاء الدولة العبرية والأراضي المحتلة والشتات. لكن الأكثر إقناعاً هو الادعاء المتحدي بأننا جميعاً فلسطينيون. لا ينبغي إطلاقاً فهم هذا الادعاء على أنه نوع من الهوية العاطفية التي تقول إن جميع أشكال المعاناة هي أشكال مختلفة من ذات المعاناة، لذا يجب علينا جميعا أن نتفق. لا أبداً. إنه الشعار السياسي لحركة التحرر العالمي الراديكالي التي استعيدت كموضوع بفضل القضية الفلسطينية. ليس الجميع يتحدث باسم فلسطين، لكن فلسطين هي التي تتحدث باسم الجميع.

————————-

رابط نص الأصلي

https://www.versobooks.com/en-gb/blogs/news/palestine-speaks-for-everyone

نشر هذا المقال باللغة الانجليزية على موقع فيرسو بتاريخ 9 إبريل 2024 وهذه الترجمة إلى العربيّة تمت على مسؤوليتي الخاصة دون تصريح من الكاتبة أو الناشر.

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.